خُرَافَة الدولة المدنية
يطيب لمعارضي حكم الاخوان المسلمين أن يسموا أنفسهم دعاة للدولة المدنية.
وتحت هذه التسمية يتم جمع كل القوى و الأفراد الذين يختلفون مع الاخوان المسلمين سواءاً في تطبيق مشروعهم الاسلامي أو في الاصول الفكرية لهذا المشروع. ورغم ما يحمله هذا المصطلح من قدر مفزع من الإبتذال، فمازال أغلب السياسيين في مصر يصرعلى إستخدامه كإطار جامع مانع لوحدة الصف أمام الخطر الاخواني.
في حقيقة الأمر فإن دعوة الاصطفاف حول مسمى الدولة المدنية هي أحد تجليات المأزق الذي تعيشه مصر حاليا و تكاد تخلو من أي محتوي فكري على عدة أصعدة.
بداية، فإن هذا المسمي بدأ كوصف مقابل لبديلين مرفوضين. أولهما هو الدولة العسكرية، وهي تلك الدولة- الحقيقية أو المتخيلة في أذهان البعض- التي كان يريد المجلس العسكري فرضها في شكلها الفج أو بشكل مستتر. وثانيهما هو الخطر القادم في شكل المشروع الاسلامي أو إقامة الدولة الدينية، رغم إنكار رافعي لواء المشروع الاسلامي لتلك المسميات تحت إدعاء أن الاسلام لم يعرف على مدى تاريخه الطويل الدولة الدينية. أمام هاذين البديلين المرفوضين ظهرت الحاجة إلى مسمى يجمع ولا يفرق. وبما ان كلمة العلمانية صارت وصفا يرهبه مؤيدوه خوفا من اتهامهم بمعاداه الاسلام فقد ظهر مسمى الدولة المدنية ليملأ هذا الفراغ وتحت مظلته الواسعة يجلس الليبرالي مع اليساري، التروتسكي مع الناصري وبينهما أبو الفتوح.
قد يبدو الأمر مفاجئا، ولكني كليبرالي، لا شيء يجمعني بأولئك اليساريين والناصريين، وبينهما أبو الفتوح، بل هُم والاسلاميون عندي سواء.
وتحت إدعاء أن أساس مشكلتنا يكمن في تفرقنا يصر أهل الحل والعقد منا على أن الحل يكمن في توحدنا. بالتاكيد فإن هراء التوحد ليس بالامر الجديد على الساحة المصرية. فتحت دعوة الحاجة إلى الوحدة ضد نظام مبارك استساغ البعض من خاويي العقول تشكيل جبهات تعددت مسمياتها من الجمعية الوطنية للتغيير إلى جبهة الانقاذ، وتحت شعارات وحدة الصف أشجى البعض أسماعنا بمسميات مثل “الاخوان فصيل وطني”. وحين إكتشف أولئك النابهون أن الفصيل الوطني لم يكن كما يتصورون ازدادوا إصرارا على ضرورة التوحد. بل وصل الأمر بأحد فلاسفة عصره إلى الدعوة إلى الوحدة مع الاسلاميين مستلهماً نموذج الدعوة العباسية في بدء أمرها من الدعوة إلى الرضا من ال محمد. لِله في خلقه شؤون!
في حقيقة الأمر يحتار المرء في فهم عدم قدرة النخبة المصرية على التعلم من الأخطاء التي ارتكبتها طوال السنتين الماضيتين. فرغم فشل كل أشكال الوحدة السابقة كالكتلة المصرية في خلق بديل حقيقي يستطيع أن يتنافس مع التيار الاسلامي يصر أصحابنا على أن المشكلة في التطبيق وليس في النظرية رغم أن أساس مشكلتهم تكمن في تلك النظرية.
ولكن بعيدا عن مشكلة التوحد وفشلها الماضي و الحاضر والمستقبل في خلق بديل حقيقي قادر على المنافسة، فإن ما يهمنا هنا كليبراليين هو أساس تلك الدعوة الحالية إلى الوحدة بين المعاديين للتيار الاسلامي تحت شعار الدولة المدنية، أي أن هناك ما يجمعنا كليبراليين بالناصريين واليساريين بمختلف ترهاتهم وبينهما أبو الفتوح، واننا يجب علينا أن نتغاضى عما يفرقنا و نشدد على ما يجمعنا
قد يبدو الأمر مفاجئا للقارئ حين يقرا الجملة القادمة وهي اني في حقيقة الأمر، و كليبرالي، لا شيء يجمعني بأولئك اليساريين والناصريين، وبينهما أبو الفتوح، بل هُم والاسلاميون عندي سواء.
أنا كليبرالي انطلق من الحرية المطلقة للفرد كما خلقه الله. أؤمن أن ترك هذا الفرد لكي يمارس حريته ليس فقط الحالة الطبيعية للأشياء والأفضل له لتحقيق السعادة بل إنه الأفضل لنا جميعا. أنا أؤمن وأعترِف إلى النَّفَس الأخير (كما يقول المسيحيون الارثودكس في صلاتهم) أن الفرد هو الأول والآخِر، هو البداية والنهاية، وأن الحكومات وُجدت لكي يحمي هذا الفرد نفسه وحريته وماله من الآخرين، وأن الدولة- أي دولة- أفضلها أو أسوأها، لا يمكن لها أن تعرف أكثرمن الفرد ما يريده وما هو أفضل له.
أؤمن أن الحرية لا تتجزأ وأن الحرية الاقتصادية هي أساس كل الحريات. أنا أؤمن أن دور الدولة الوحيد هو حماية الفرد من الايذاء الجسدي، حماية الملكية الفردية من الاعتداء وضمان التعاقدات.
أريد الحد من تغول الدولة في حياة الأفراد بدعوى الصالح العام أو مصلحة الوطن، أريد الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد تحت دعاوي العدالة الاجتماعية، أريد أن تنسحب الدولة من المجال العام تاركةً الأفراد يتمتعون بعمل أيديهم وحريتهم الكاملة في الحفاظ على دخلهم.
على الناحية الاخرى ينطلق أصحاب المشاريع الشمولية من يساريين، ناصريين واسلاميين (وبينهم دوما أبو الفتوح) من أنهم يعرفون أكثر من المواطنين ما هو أفضل لهم. يجمعون على أن الدولة لها دور تلعبه في الاختيار لمواطنيها ما هو أفضل لهم وانها يجب عليها التدخل من أجل الصالح العام. صحيح أنهم يختلفون فيما بينهم على ماهية هذا الصالح العام بين دِين وطبقة عاملة وقومية (ويجمعهم أبو الفتوح) ولكن تَعَدُّد السيوف لا يخفي حقيقة أن الموت واحد. فلا يعنيني كثيرا إن كان سيتم الحد من حريتي تحت دعوى تعارضها مع الاسلام أو مع طريق الأُمَّة الواحدة نحو الرسالة الخالدة، أو تحت دعوى العدالة الاجتماعية. في كل الأحوال يداي مغلولتان و حريتي مقيدة.
أيعني هذا اننا لا يمكن أنا نتوافق مع الأخرين في أي شيء ونرفض كل أشكال التعاون من أجل الحفاظ على طهارتنا الايدولوجية؟ بالتأكيد لا
فرص التعاون مع الأخرين متعددة ويجب اغتنامها ولكن لا يمكن أن تبدأ إلا حين ندرك على أي أرضية نقف وأين يقف الأخرين. التعاون يبدأ حين ندرك أنه يختلف عن الوحدة وإنه يكون فقط على الامور التي نتفق عليها مع أي فصيل سياسي وإنه بطبيعة الحال لن نتفق في كل القضايا بل ربما في قضية أو اثنتين. التعاون الحقيقي قد يكون مع اليساريين في قضية تتعلق بالحق في التظاهر أو قد يكون مع الاسلاميين في قضية تتعلق بالملكية الفردية. في كل الحالات هو تعاون مرحلي وفي قضية واحدة، ولكنه بالتاكيد ليس تحت شعارات فارغة وجبهات خالية.
أبو ليلى التغلبي