الفرز السياسي الغائب

المصدر: flickr.com/maggieosama

بقلم: محمود ابراهيم

واحدة من أسباب تجاوز اي مجتمع للعثرات التي يمر بها هي قدرته علي تحديد الاختيارات التي يجب ان يدفع ثمنها ليصل من حالة الي حالة جديدة، يُفترض أن تكون أفضل. و تكون مهمة اي قائد سياسي هي أن يحدد للناس بوضوح تلك الاختيارات و ثمنها، و يكون معني الحرية هو قدرة الناس علي الاختيار، والاهم من دفع ثمن الاختيارات هو عملية التعلم من الاختيارات الخاطئة حتي يتجنبها المجتمع في المرات التالية. ومع التعلم يأتي ما يعرف ايضا بالفرز السياسي بين من ضل الطريق “كقائد سياسي”، وبين من صدقت بوصلته و حدسه و كان صادقا مع الناس و لم يكذب عليهم او يخدعهم.

لا شئ من كل ما سبق حدث في مصر، فبينما كانت الاختيارات واضحة في لحظات كثيرة، فقد غاب عن المشهد من يستطعيون مواجهة الناس بالحقائق. والكارثة الاكبر هي ان الناس مازالت تنساق وراء من كانوا سبباً في الوصول الي ما نحن فيه بأشكال مختلفة ، بل ويسبغون نوعاً من القداسة علي آراء هؤلاء ومواقفهم.

لم تحدث المراجعة. لم يتم الفرز المنتظر. لم تطرد الساحة من قالوا “انتخبناه لكي نعارضه”. الأكثر أن هؤلاء يعالجون مواقفهم العبثية بالالتفاف عليها. لم يحدث استبعاد طبيعي لكل من ثبت أنهم “فاقدي أهلية” من الناحية السياسية.

البداية كانت فيما عرف “بعملية الاصلاح” داخل الحزب الوطني و التي قادها نجل الرئيس مبارك. وقد كانت هذه العملية تجري في خطوات محددة، قد نتفق او نختلف عليها. وفي المقابل، كان هناك من رأى ان هذه العملية ليست سوى تجميل لمخطط انتقال السلطة من الأب للابن. وبدأت كرة ثلج بدأت صغيرة بحركة اسمها كفاية و انتهت كبيرة في ميدان التحرير، وكان غياب شكل واضح لانتقال السلطة سببا مباشرا في كل ماحدث. والمهم هنا أن الأحداث العاصفة التي عاشتها مصر في العامين الماضيين حالت دون حدوث فرز موضوعي لسياسات و قرارات عصر مبارك. وللأسف لم يحدث هذا الفرز والتقييم إلى الآن.
اتصالاً بموضوع الاختيارات. فمن المعروف الآن أن اهم اختيار واجهته الثورة جاء في أيامها الأولى، عندما قدم اللواء عمر سليمان – نائب الرئيس وقتها- خياراً واضحاً للثوار ومؤيديهم، والإخوان وغيرهم من القوى السياسية: إما استكمال الرئيس لفترة الرئاسية، وإما الفوضى.

ليس ما يهمني هنا هو اختلافك او اتفاقك مع الرجل و تاريخه و الثقة فيه و لكن يهمني فقط ان الاختيارات كانت واضحة ، وكان الطريق واضحاً كذلك. واختار الأطراف – عن وعي- السير في طريق معين.

أما المجلس العسكري، فقد فشل بكل المقاييس و تبني حسابات و اجتهادات خاطئة وصار مديرا فاشلا للبلاد ، بدلاً من أن يكون “قائدا” يضع الاختيارات و يحدد الثمن كما حدث من اللواء سليمان.

و بينما جاء الاستفتاء الدستوري الاول صادما و معبرا عن الارتباك و رفضه البرادعي و من بايعه علي السمع و الطاعة فأن الخسارة لم تكن جرس انذار لأحد. و لم يحدث فرز. لم تظهر الاختيارات السياسية الحقيقية وأثمانها. تعمد الكثيرون التعمية على الوضع السياسي الحقيقي والأثمان التي سوف يدفعها المجتمع إذا تبنى كل خيار. فضل القادة أن يسيروا وراء موجات الغضب الجماهيري غير معلوم الوجهة أو السبب. لم يكن هناك ما يضمن إلا تتكرر خسائر المعسكر “المدني” أمام تيار الإخوان، لأنه لم تحدث هذه المراجعة وهذا الفرز السياسي للقيادات والاختيارات. وصارت المليونيات و الميدان هو الاختيار الاسهل طوال فترة حكم المجلس العسكري و بها تحققت اهداف فرعية لم يكن فيها هدف سياسي واحد يمكن ان يستفيد منه ابناء الميدان ليبنوا عليه. والحقيقة أن أن “خيار الميدان المنصوب” لم يكن مكلفاً لمن اتخذوه، ولكنه حمّل الوطن كله تكلفة سياسية باهظة.

وفي انتخابات مجلس الشعب خسر التيار المدني بعد ان انفق الكثير من الاموال التي كان يمكن توظيفها بشكل أفضل، و لكن قيادة ساويرس و مقاطعة البرادعي و تخبط الناس بين اختيارات متناقضة قادت إلى الخسارة المحققة. فالحاصل أنه كان هناك خطاب يقول ” الاخوان فصيل وطني مصري من الميدان”، ثم تجد نفس صاحب الخطاب يقول ” الاخوان يحتلون مصر و يسعون للهيمنة فلا تنتخبوهم”. وليس مهماً هنا اثبات صحة ذلك من عدمه. ولكن مرة ثانية أركز على عملية الفرز السياسي والتي ينبغي أن تتضمن أيضاً الاتساق و التكامل الذي يمارسه من يتصدرون الواجهات و يدعون انهم النخبة و القادة.

وصل القطار الي محطة انتخابات الرئاسة و بدأنا بمحاولات عديدة للانقلاب علي النظام القديم بتمرير قانون العزل و وافق عليه البعض و دعمه لمصالح سياسية. ولكن استطاع المرشحان عمر سليمان و شفيق تجنب العزل. وتباري المحللون في التقليل من فرص الرجلين باعتبار ان الثورة مستمرة و لها رجال ستنصرها، و اختار البعض و أكد علي ان ابو الفتوح “ليبرالي” و حمدين “ناصري” و شفيق “نظام سابق” ملفوظ ومرسي “استبن” وأثبتت النتائج أن النخبة في وادٍ، والصراع السياسي والاجتماعي في وادٍ آخر. و خابت كل رهانات المحللين وقادة الرأي، ولم تحدث محاولة جادة لتصحيح الخطأ و الاعتراف به. ولم يحدث حتي الان ان قال احد انه اكتشف ان ابو الفتوح ليس ليبراليا علي الاطلاق أو ان الناصرية تجاوزها الزمن و ان حمدين فشل في قيادة المعارضة و فرض نفسه علي الساحة السياسية.

لم تحدث المراجعة. لم يتم الفرز المنتظر. لم تطرد الساحة – كما هو مفترض- كل من قالوا “انتخبناه لكي نعارضه”. الأكثر أن هؤلاء يعالجون مواقفهم العبثية بالالتفاف عليها، وبأن “المرشح الآخر كان سيصبح أسوأ”. لم يحدث استبعاد طبيعي لكل من ثبت أنهم “فاقدي أهلية” من الناحية السياسية. بدون هذا الفرز الطبيعي للمواقف والأفكار لن نتقدم خطوة واحدة.

ليس من العقل او الحصافة او الذكاء او الفطنة ان تؤيد شخصاً أو جماعة و تثق فيه مرات عديدة و في كل مرة يثبت انه كان علي خطأ ، ثم يعلق أخطاءه على شماعة عصر مبارك الذي انتهي من عامين ثم اختيارات المجلس العسكري ثم جهل الناس أحيانا و عدم وعيهم تارة أخرى. في حين يظل هو وحده من لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه.

يحتاج الوسط السياسي المصري بشدة إلى حالة من الفرز الحقيقي تتضمن، من بين أشياء أخرى، مراجعة جادة لفترة حكم مبارك، ولعصره ورجاله. كما تتضمن أيضاً مراجعة أمينة مع النفس للمواقف والأفكار التي طرحت خلال العامين الماضيين، وللأشخاص الذين تبنوا هذه المواقف. بدون هذه المراجعة سوف يظل الأسوأ يطفو على الساحة، بعد أن بدل – فقط- القبعة التي يرتديها، والتي يظل تحتها –للأسف- نفس الرأس!