في فهم أصول المسألة الاباحية
بقلم: عمرو نصر الدين
نقلت بوابة الاهرام الالكترونية يوم 31 مارس الماضي تصريحاً للدكتور شريف هاشم، نائب رئيس المرفق القومي لتنظيم الاتصالات، يفيد بأن الشركات المقدمة لخدمات الانترنت قامت في شهر يناير 2013 بتركيب الاجهزة اللازمة لحجب المواقع الاباحية علي الانترنت. ويأتي هذا التطور كآخر انعكاسات الجدل الواسع الذي شهدته مصر علي مدي العاميين الماضيين حول جدوي حظر المواقع الإباحية علي الإنترنت وفرض قدر من الرقابة علي المحتوي المقدم من خلالها.
وبصرف النظر عن النقاش الفني حول جدوي تكنولوجيا الحجب وقدرات برامج البروكسي، أو حتى الجدل الأخلاقي حول تأثير تلك المواقع علي الأخلاق العامة، فإن قضية حجب المواقع الاباحية جزء لا يتجزأ من ظاهرة أوسع وأعمق تتعلق بشكل وطبيعية الحدود والاطر، التي يسعي البعض لفرضها، لتحكم حركة المجتمع المصري وتطوره خلال المرحلة القادمة، وذلك وفقاً لرؤية يؤمن أصحابها بأنها تعبر عن “الحقيقة المطلقة”.
إن هذه الرؤية تنطلق أساساً من تصور لدى جماعات اليمين الديني بأن المشكلة الرئيسية التي تعاني منها مصر هي مشكلة أخلاقية. فإذا صلحت أخلاق الناس، وعادوا للتمسك بدينهم حقاً، فإن وضعهم يتحسن تلقائياً. ومن هنا يؤمن المنضوون تحت لواء تلك الجماعات إيماناً مطلقاً بأن تطبيق نظام قانوني مستمد من الشريعة الإسلامية (أو بمعني أدق تفسيرهم للشريعة الإسلامية) كفيل بنقل المجتمع نقلة كبرى للأمام، وكفيل بحل المشكلات التي تواجهه والخروج من الأزمات التي تعترض طريقه.
الرؤية لدى اليمين الديني واضحة وبسيطة. فالدين (وبمعني أدق فهمهم للدين) يحمل الإجابة الشافية لمشاكل العصر لأنه صالح للتطبيق لكل زمان ومكان. وبالتالي ففشل النظم التي حكمت مصر في حل المعضلات الاقتصادية والتنموية التي تواجه البلاد يكمن في عدم سماحها للدين بلعب الدور الرئيسي في مواجهة مشاكل المجتمع؛ الأخلاقية بالأساس وفقاً لتصورهم.
الخطوة الثانية في هذا التصور، تربط تطبيق تلك الرؤية بوجود اليات فعالة وقاهرة في أيدي السلطة لفرضها فرضاًً على المجتمع، الذي ينزع، كنتيجة للطبيعة الانسانية، لرفض القيود التي تحد من شهواته ومتعه “الحرام”. وهنا يجب أن تتدخل الدولة لفرض “منظومة أخلاقية” شاملة على المجتمع. تدخل الدولة هنا واجبٌ ومسئولية وفقاً لهذا الفهم. فإذا تُرك المجتمع لحاله، فإنه ينزع إلى التحلل من القيود والانحدار نحو الفساد الأخلاقي، وهو ما يحتم ضرورة تدخل الدولة مسلحةً بالقانون الرباني (الشريعة الإسلامية في هذه الحالة).
الحقيقة أن المنطق السابق بسيط ومقنع في آن. من يكره أن تُفرض الأخلاق؟ من يكره أن تقوم الدولة “بتربية الناس”؟. من يعارض محاربة الانحطاط الأخلاقي؟. لقد وجدت حركات اليمين الديني منذ انهيار النظام السابق وإنتهاء الضغوط الامنية بيئة مهيأة للعمل علي سطح الأرض وللتفاعل مع المواطنين وبث آرائهم هذه عبر وسائل الاعلام المختلفة والسعي لتطبيقيها بكل الوسائل المتاحة.
خطورة المنطق السابق أن ما تفرضه هذه الجماعات هو في النهاية “تفسير بشري” لما ترى أنه “أخلاق وحق وخير”. هذا التفسير البشري للنص الديني، يتحول إلى حقيقة مطلقة يمتلكها أناس بعينهم. خطورة الأمر أن يمتلك أًصحاب هذه التصورات المطلقة ادوات القمع والاجبار في الدولة، إذ يسخرون هذه الأدوات لخلق منظومة متكاملة من “الوصاية الأخلاقية” على المجتمع. وتساعدهم هذه الوصاية بالطبع في تحقيق السيطرة السياسية الكاملة، إذ أن المعارضة السياسية تصبح في هذه الحالة نوعاً من الخروج على “المنظومة الأخلاقية” أو الدينية.
يخلق ما سبق وضعاً خطيراً. يصبح من الصعب تصور أين تنتهي حدود الوصاية الأخلاقية على المجتمع. تتجه الأمور – غالباً – إلى المزيد من التطرف في فرض “الأفكار المطلقة” على الناس. حدث هذا في منظومات مشابهة في السابق أهمها المنظومة الشيوعية في كل من الاتحاد السوفيتي والصين. وقد وصل الأمر في الأخيرة إلى حالة من الجنون الكامل في فرض “أخلاق جديدة” على المجتمع فيما عرف “بالثورة الثقافية” في الستنيات.
واليوم، تجد تيارات اليمين الديني في الأزمة السياسية الراهنة والمقترنة بحالة الفراغ السياسي والتشريعي التي تمر بها البلاد، فرصة كبيرة قد لا تتكرر لفرض رؤيتها وصبغ المجتمع بها من خلال وضع آليات متعددة، سواء كانت قانونية من خلال تهيئة المناخ التشريعي لسن قوانين تحقق تلك الرؤية أو من خلال وضع آليات رسمية أو غير رسمية (قضية قتيل السويس نموذجاً) لتطبيق هذه الرؤية علي أرض الواقع.
وهنا، فإن الأمر لن يتوقف عند حجب المواقع الإباحية أو منع أفلام معينة أو فرض زي معين على النساء…إلخ. وإنما سينتهي الحال – كما تشير التجارب المشابهة في التاريخ – إلى فرض منظومة أخلاقية متكاملة على المجتمع. هذه المنظومة، والتي عاده ما يبدأ تطبيقها، بخطوات صغيرة ومحدده، تنتهي بدخول المجتمع إلي أتون دوامة لا نهائية من التطرف والتعصب؛ تحت شعار تطبيق الطهارة الاخلاقية.