حسن البنا يطهر القضاء؟
بقلم: كريم عماد
قضيت صباح يوم الجمعة فى التنقل بين مواقع الصحف المصرية بهدف التعرف على أسباب ومطالب المظاهرات التى دعت إليها جماعة الإخوان المسلمين ضد مؤسسة القضاء. أشارت بعض الصحف إلى تطهير القضاء من الفاسدين فيما أشارت صحف أخرى إلى غضب من قرار إخلاء سبيل الرئيس السابق فى قضية قتل المتظاهرين. بين هذا وذاك حذرت بعض قوى المعارضة من محاولة تمرير قانون جديد للسلطة القضائية يخفض سن التقاعد عشر سنوات مما يؤدى إلى الإطاحة بعدد كبير من القضاة. إستدعى ذلك المشهد ذكريات مذبحة القضاة عام 1969 فراح بعض الكتاب ينبشون ملفات الماضى فى محاولة لإجراء مقارنة لا تبدو فى محلها.
المشهد ملتبس. الغرض الحقيقى غير واضح. الأهداف ليست معلنة. إن صحت توجسات المعارضة فما هو الهدف الحقيقى الذى تسعى إليه جماعة الإخوان المسلمين؟ ما طبيعة العلاقة بين سن التقاعد والتطهير؟ هل أجرت الجماعة حصراً بأعداد القضاة الفاسدين فتبين لها أن الفاسدين هم تلك المجموعة التى سيطيح بها القانون الجديد؟ أم أن الإطاحة ببعض القضاة هى تمهيد لإجراءات أخرى خفية؟ وما هو مفهوم ومعيار الفساد؟
المشهد برمته يبدو إذن شديد الغموض. بيد أن قليل من التأمل فى الميراث الفكرى والتنظيمى لحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين قد يساهم فى إلقاء بعض الضوء على المقاصد الحقيقية الباطنة فى النفوس. إن الموقف المعلن لحسن البنا من القانون الوضعى والقضاء الوطنى يكشف الكثير مما يستحق التوقف أمامه.
هل الهدف الحقيقى لمظاهرات الجمعة هو تأسيس النظام القضائى الإسلامى الذى طالما حلم به المرشد المؤسس أم أن الأمر لا يتعدى إرهاب القضاة بغية إستصدار أحكام بالإدانة ضد الرئيس السابق ورموز النظام القديم؟
بمطالعة الباب الرابع من اللائحة الداخلية لمكتب إرشاد الإخوان المسلمين ومجلس الشورى العام الصادرة عام 1944 يتبين لنا من نص المادة 25 من هذه اللائحة أن مكتب الإرشاد العام يتولى إنشاء عدة لجان تشمل ما يسمى بلجنة التحقيق والمصالحة. وقد حددت المادة 31 من اللائحة مهمة هذه اللجنة بالنظر فى “ما ينسب الى الأعضاء من أمور تتنافى مع واجبات العضوية أو من خلافات فيما بين بعضهم و البعض الآخر، وتقدير الجزاءات التى يجب أن توقع عليهم ومحاولة الإصلاح بين المتخاصمين وفض الخلافات التى بينهم بالطرق الودية بدون التجاء الى القانون الوضعى وعلى هذه اللجنة أن تضع لنفسها لائحة خاصة تحدد مهمتها”. وفى ذات الصدد يؤكد الباحث حلمى النمنم فى كتابه الهام “حسن البنا الذى لا يعرفه أحد” أن البند الخامس من لائحة التحكيم والمصالحة ينص على أنه “لا يجوز للإخوان أن يلجؤوا إلى المحاكم فى الخلافات التى بينهم خاصة ولا يجوزلهم ذلك فى الخلافات التى بينهم وبين غيرهم إلا إذا عجزت اللجنة عن التأثير على الآخرين” كما يؤكد أيضاً أن البند السادس من هذه اللائحة قد جاء به ما نصه “إذا رأى أحد الإخوان فى حكم اللجنة إجحافا فله أن يستأنف ذلك إلى مجلس الشورى المركزى وعلى المجلس إن وصله هذا الاستئناف أن ينظر فيه ويكون حكمها بعدئذ نافذا وعلى الأخ أن ينزل عليه”. تتضح الصورة أكثر بمراجعة رسالة حسن البنا المعنونة “رسالة التعاليم” إذ تقول التعليمة رقم 25 ما نصه “أن تقاطع المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامى، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التى تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة”.
هذا هو موقف المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين الذى يدعو صراحة إلى الخروج على القضاء الوطنى ومقاطعته بل وينشىء قضاءاً موازياً بلا مواربة. وهنا يثور التساؤل عما إذا كان الهدف الحقيقى لمظاهرات الجمعة هو تأسيس النظام القضائى الإسلامى الذى طالما حلم به المرشد المؤسس أم أن الأمر لا يتعدى إرهاب القضاة بغية إستصدار أحكام بالإدانة ضد الرئيس السابق ورموز النظام القديم؟ أياً كان الأمر فإن الطريقة التى تتعامل بها جماعة الإخوان مع القضاء الوطنى وأحكامه تخرج بالعدالة من إطارها المجرد إلى الإطار الإنتقامى الإنتقائى أو ما يطلق عليه العدالة الثورية.
ولكن هل سبق لنماذج العدالة الإنتقامية الثورية تلك أن حققت أهدافها أم أنها لم تأت سوى بالدمار والخراب والظلم؟ يجيب تاريخ الثورة الفرنسية وما عرف بمحاكمات عهد الإرهاب عن ذلك السؤال. لقد دفعت مدام رولاند – أحد أشهر شخصيات الثورة الفرنسية – حزب الجيروند إلى التصويت لصالح إعدام الملك لويس السادس عشر على الرغم من أن كثير من المؤرخين يجمعون على أن الملك لم يكن يستحق ذلك الحكم القاسى. بعد إستيلاء حزب اليعاقبة على السلطة كان ميعاد مدام رولاند مع ذات المقصلة التى أطاحت برأس الملك لويس السادس عشر وحينها أطلقت صيحتها الشهيرة “يا أيتها الحرية كم من آثام يرتكب بإسمك”. إستمرت المحاكمات الثورية الظالمة فى عهد الطاغية روبسبيير إذ تم إعدام ألوف بلا ذنب حقيقى حتى وصل الأمر إلى حد أن المحامى الذى يسرف فى الدفاع عن المتهم وبيان أدلة براءته كان يساق هو الآخر إلى حد المقصلة ليعدم بجانب المتهم! هل أفلت روبسبيير من ذات المصير؟ لقد حاول روبسبيير إستصدار قانون بإلغاء الحصانة البرلمانية لأعضاء البرلمان سعياً – للمفارقة المذهلة – إلى تنفيذ ما أطلق عليه “تطهير” البرلمان فما كان من الأخير إلا أن إنقلب عليه فى الوقت الذى لم تفلح محاولات الجيش والهيئة البلدية فى حماية روبسبيير فكان مصيره هو الآخر حد المقصلة التى لم ترحم أحداً. هذا هو إذن درس التاريخ الذى لا يبدو أن أحداً يلتفت إليه.
الأخطر مما تقدم أن السياسة الإقتصادية لجماعة الإخوان المسلمين – على ما يبين من تصريحات قادتها – تتجه إلى جذب الإستثمارات الخارجية. وهنا تثور الدهشة إذ كيف يمكن لمستثمر أن يأمن إلى نظام حكم يتهم جهازه القضائى بالفساد والتآمر ضد الدولة ويدعو إلى تطهيره. إن إنغماس جماعة الإخوان المسلمين فى تلك المعارك الصبيانية الإنتقامية مع أجهزة القضاء والشرطة والإعلام والجيش وإنشغالها عن المتطلبات اليومية الملحة للمواطن من تعليم وخدمات صحية ونقص مواد الطاقة وإرتفاع الأسعار سوف يقود الدولة إلى هوة سحيقة لن ينجو منها أحد بل لعل أول الغارقين قد يكون تلك الجماعة.