أي عدالة نريد؟
بقلم: إسلام حسين
في ظل الاحداث الجارية والتركيز على مسألة العدل والقضاء، وردود الافعال الغاضبة تجاه قرار محكمة النقض اخلاء سبيل الرئيس السابق حسني مبارك في قضية قتل المتظاهريين، تذكرت قصة المفكر و المحامي و الثائر جون ادامز الذي شهدت أمريكا استقلالها على يديه (وايدي أخريين) من طغيان بريطانيا العظمى.
كان جون ادامز مفكر و محامي من مدينة بوسطن فيما كان في ذلك الحين محافظة خليج ماساشوستس قبل أن تصبح ولاية مساشوستس في الإتحاد الأمريكي الجديد. قبل أحداث الثورة الأمريكية بستة اعوام تطوع جون ادامز للدفاع عن جنود بريطانين (ليسوا من مواطني المحافظة) كانوا يواجهون تهمة القتل العمد في أحداث مجزرة بوسطن والتي قتل فيها 5 مواطنين من المحافظة و جرح 6 اخرين. وبالرغم من عواطفه الشديدة المحبة لموطنه مساشوستس و رفاقه مواطني المحافظة، و بالرغم من شعوره بالأسى على المجني عليهم، واللذين حاول مساعدتهم أثناء وقوع المذبحة بالقرابة من منزله، الا أنه قد أرهبه ما رآه من مشاعر الغضب الجارفة من مواطني مساشوستس اللذين طالبوا بالقصاص دون أي نظر في أحداث المجزرة و من غير أي محاكمة.
ماساشوستس لم لتكن موطناً لجون ادامز إن لم تكن موطناً للعدل و العدالة للجميع، لمواطنيها و لغير مواطنيها، لأفضلهم و لأرذلهم و لأكثرهم كرهاً لدى الناس
فإذا به، حباً في موطنه الذي رأى أن يكون للقانون و العدالة مكانة رفيعة فيه، يتقدم للدفاع عن الجنود البريطانيين إرساءً لمبدأ أن كل إنسان بريء حتى ثبت ادانته. و لنتذكر أن هؤلاء الجنود لم يكونوا حتى مواطنين من ماساشوستس. ولكن لادامز كانت تلك هي أسمى درجات العدالة. فقد رأي ادامز أن ماساشوستس من غير سيادة للقانون لن تكون أبداً مكاناً للعدل و السلام الإجتماعي. و بحكم براعته و استناده للحقائق و الحق إستطاع ادامز أن يفوز بالقضية بالرغم من أن المحلفين كلهم كانوا من أبناء ماساشوستس و كانوا تحت ضغط رهيب للحكم ضد هؤلاء الجنود.
لكن في نفس الوقت، حين زادت تعسفات الملك البريطاني تجاه محافظته حتى وصلت لحد التعدي على نفس القوانين و مبادئ العدل و العدالة التي دافع عنها ادامز، فإذ به يساند أبناء موطنه مساشوستس للنضال ضد التاج البريطاني، إلى أن ذهب إلى فيلادلفيا حيث مكان كونجرس المحافظات (فقد كان الكونجرس هو المؤسسة الممثلة للمحافظات الأمريكية لدى التاج البريطاني قبل إعلان الإستقلال و تم نقله لاحقاً إلى واشنطن) و ناضل ضد مقاومة عنيفة من أغلب أعضاء ذلك الكونجرس المواليين للتاج البريطاني. وكلل مجهوده الجبار بأن أيده جميع ممثلي المحافظات الأخرى (ما عدا ممثل واحد قرر عدم التصويت) في إعلان إستقلال المحافظات الأمريكية عن بريطانيا العظمى و تكوين إتحاد الولايات الأمريكية بعد بضعة اعوام.
فجون ادامز الذي دافع عن جنود بريطانين اتهموا بقتل أبناء موطنه هو جون ادامز الذي قاوم ضد التاج البريطاني بكل ما يملك، و من يعتبر من أهم الأفراد المحركين للثورة الأمريكية. فكيف لنا أن نفسر ذلك؟
التفسير هو أن ماساشوستس لم لتكن موطناً لجون ادامز إن لم تكن موطناً للعدل و العدالة للجميع، لمواطنيها و لغير مواطنيها، لأفضلهم و لأرذلهم و لأكثرهم كرهاً لدى الناس.
بعد إعلان الإستقلال بثلاثة عشر عاماً، قامت ثورة أخرى، هذه المرة في فرنسا. قامت الثورة ضد طغيان و فساد نظام ملكي يعطى طبقة واحدة إمتيازات خاصة من دون الآخرين. قامت الثورة تحت شعار “الحرية، المساواة، الإخوة”. لم يشمل شعار الثورة كلمة “العدل”، فإذا بالثورة و قادتها، و بالذات القائد الثوري ماكسيميليان روبسبيير، يقوموا بتنفيذ ما عرف ب”عهد الإرهاب” الذي أعدم خلاله الألاف المؤلفة من الأرستقراطيين و أي أفراد أخريين حسبوا على النظام الملكي، بغض النظر عن إن كانوا بريئي الذمة من نظام وجدوا نفسهم فيه و بغض النظر عن قدر فسادهم. فبدل أن تقام محاكمات عادلة يعاقب فيها كل واحد حسب قدر جريمته، كان مصير الكل هو الإعدام بالمقصلة (الجيلوتين). في أوج عهد الإرهاب هذا قتل قرابة ٤٢٬٠٠٠ ألف في غضون ٩ اشهر فقط من عمر الثورة الفرنسية التي استمرت ١٠ اعوام كاملة.
من اشهر مقولات روبسبيير: “الإرهاب (أو العنف) ما هو إلا العدل: فوري، حاد، وغير مرن.” قارن بين هذا التعريف للعدل بذلك الذي إحتذى به جون ادامز. مفهوم العدالة في الثورة الفرنسية كان مغلوط. مفهومها كان مؤداه أن الظلم و الطغيان لا يقابلوا إلا بالظلم و الطغيان. إذن قامت الثورة ليس من أجل العدل، لكن من أجل الثأر. العدل لم يكن ركيزة أساسية في تلك الثورة.
لاحظ هنا أنني لا ادعي إن النظام الملكي الفرنسي كان عادل، بل كان ظالم كل الظلم. لكني أقول، كما رأينا من درس جون ادامز، أن العدل و العدالة لا يمكن أبداً أن يأخذوا مرتبة ثانية من أجل الثأر الأعمى من الظلم، عن طريق الإرهاب الجسدي (كثورة فرنسا) أو الإرهاب العقلي أو الفكري تحت مسمى “الإرادة الثورية”.
فماذا حدث لثورة فرنسا المبنية على الإرهاب و الثأر الأعمى؟ مرت فرنسا بعشر سينين من الاضطراب و التناحر بين الثوار حتي قتل روبسبيير نفسه بالمقصلة بأمر من ثوار اخرين. بعد هذا، صعد نابليون بونابرت لعرش الحكم، ليس كحاكم منتخب بصورة ديمقراطية (في ذلك الحين، أنتخب جون ادامز لرئاسة أمريكا في إنتخابات حرة نزيهة من بعد عهد جورج واشنطن في إنتخابات ديمقراطية نزيهة هي الأخرى)، بل كإمبراطور و ديكتاتورقاد فرنسا في حروب خارجية عديدة، بعدها إنتهى حكمه بعودة فرنسا لعدة سنين من الحكم الملكي الذي قامت ضده الثورة. إلى أن نشأت الجمهورية في عام 1848, بعد ستون عاماً من التخبط في الظلام و العنف و الإرهاب و الظلم.
في ذات الوقت، كانت أمريكا تنعم بتداول للسلطة تحت نظام ديمقراطي برلماني فيه الدولة محدودة في سلطاتها، و لم نرى أي رئيس أمريكي يأخذ الحكم لنفسه لعدة عقود كإمبراطور أو كملك.
فلنسأل أنفسنا إذن، ماذا نريد الأن؟ أنريد ثورة ضد الفساد لكن مع العدل و القانون كي نثبت قيم العدل و العدالة في بلادنا و كي ينعم بهما اولادنا و أولاد اولادنا؟ أم نريد ثورة ضد الفساد و الظلم، نعم، لكن ثورة ثأر أعمى و إرهاب، لا يكون العدل جزء أساسي منها، و لا تعلى فيها العدالة و دولة القانون؟ أستكون دولة إمبراطوريين (كبونابرت) و ملوك جدد، أم دولة القانون التي يكون فيها فصل للسلطات و قيود على هذه السلطات كي لا تستغل للتعدي على حقوق و حريات المواطن؟
تنشر المقالة بالتوازي لنشرها في مدونة ليبرالية
2 Responses to “أي عدالة نريد؟”
[…] تفلح محاولات الجيش والهيئة البلدية فى حماية روبسبيير فكان مصيره هو الآخر حد المقصلة التى لم ترحم أحداً. هذا هو إذن درس التاريخ الذى لا يبدو أن أحداً يلتفت […]
[…] تفلح محاولات الجيش والهيئة البلدية فى حماية روبسبيير فكان مصيره هو الآخر حد المقصلة التى لم ترحم أحداً. هذا هو إذن درس التاريخ الذى لا يبدو أن أحداً يلتفت […]
Comments are closed.