فهلوة "تيك-أواى"
بقلم: سري صادق
لم تكن المصادفة هى ما جعلت أرشميدس يطلق صيحته “وجدتها “، كما لم يكن قدرا غامضا أن تلاقى عينا نيوتن تفاحته. فكما يقول المثل : لا يأتى الحظ إلا لمن يستحقه. قيم العمل و الإجتهاد و المثابرة هى أساس النجاح فى مضمار الحياة.
لكن يبدو أننا – أى العديد من المصريين – لنا رأى آخر .. نفتقر إلى العمق و نفضل الفهلوة .. نعتقد أن هناك دوما طريق خفى نصل به لغاياتنا دون جهد و مثابرة .. نتقافز كالمهرجين لنلاحق عقارب الزمن فتجرفنا دوامة الحياة بعيدا عن أهدافنا .. ندمن الـ”تيك-أواى” ، حياتنا كلها على الطاير .. ليس لدينا إهتمام بالتفاصيل فنحن نتابع فقط عناوين الأخبار و نقتنص المواضيع من رؤوسها .. أكاد أراهنك أن نصف من وصلوا إلى هذا السطر يمارسون هواية عصر الليمون لكى يصلوا إلى نهاية المقال. لا نرحب إجمالا إلا بما يتماشى مع رؤيتنا المسبقة و لا نعدل أفكارنا إلا مجاملة .. عندنا التحليل و الدراسة والتأمل مضيعة للوقت .. دروس الماضى لا نتعظ منها ؛ نكره قراءة التاريخ بينما ندعى بطولتنا فيه .. نرفض الإتقان و التأنى .. و نعشق نظرية المؤامرة ؛ ففى الأخير، الخبايا و المكائد لا يكشفها إلا أهل الفهلوة ..
و لما كانت تلك هى حالتنا المتردية .. وجب علينا أن نتروى و نقيم أمورنا و نطرح على أنفسنا الأسئلة الصحيحة .. فالعثور على الإجابات السديدة دائما ما يبدأ بحسن تكوين الأسئلة .. هكذا علمنا المعلم الأول سقراط .. كذلك يلزمنا الضمير الأمين الذى لا يمزج الحقائق بالآراء ليصيرها على هواه .. لا نصح و لا يستقيم حال مجتمعنا إن إنزوى عن ممارسة التفكير و تكاسل عن مناظرة الفلسفات و الحضارات و عن تقييم ذاته و أفكاره و توجهاته أمامها. لن ينبنى مجتمعنا و يشتد عوده إلا بطرح الأسئلة الصعبة و المجاوبة عنها .. أن يكون مثلا لديك تصور واضح عن الحق و الخير و العدل و السلام و كيف تتناغم تلك القيم مع بعضها البعض .. أن تعَرِّف بدقة ما هى الدولة ؟ و ماذا تريد منها ؟ كونك متعاطفا مع العمال و الفلاحين و الفقراء لا يجعلك يساريا .. الليبراليون ليسوا حفنة رجال أعمال فاسدين .. الأحكام المطلقة لا تسمن و لا تغنى من جوع .. منظومة فلسفية متكاملة هى التى تحدد إتجاهك السياسى .. لا يكفى أن تستسهل الأمر و تتهرب من الإجابة بعبارات من نوعية : كل الحقوق و الواجبات لكل المواطنين ! ما هى تلك الحقوق ؟ و ما حدودها ؟ ما هى تلك الواجبات ؟ و ماحدودها ؟ ما هو القانون ؟ ما الدور الذى تريد لكل واحدة من مؤسسات الدولة أن تؤديه ؟
فى خمسينات و ستينات القرن الماضى قامت دولة على شعار العدالة الإجتماعة نتج عنها فى النهاية نظام يمنح المواطنين الخدمات بالمجان ..كان النظام السياسى بمثابة الأب و الأم الذى يرعى طفلا صغيرا و مسئولا عن تسديد كافة إحتياجاته .. راق ذلك الأمر للشعب .. ليس أدل على ذلك من مشاهد جنازة الزعيم .. ما غفله الجمع أن الطفل صار مدللا .. أتلفته العناية الزائدة عن الحد .. أمسى يرفض الإعتماد على نفسه و تحمل المسئولية .. ظهرت نخبة منفصلة عن الواقع تراودها أحلام العظمة و الريادة .. القيم الفردية كالعمل و الكفاح طغت عليها القيم الجماعية كالتكافل و المؤازرة .. الفضيلة إن خرجت عن سياقها إنقلبت إلى ضدها .. كان من الطبيعى أن تثور الجماهير أمام سياسات الإنفتاح .. فما كان بالأمس عطية من الدولة أصبح اليوم حقا مكتسبا بوضع اليد .. أخطأت القيادة السياسية حينما أقحمت تغييرا لم يكن المجتمع مستعدا له .. نتج عن الأمر إختلال إجتماعى .. سادت هذه المرة قيم النفع و المصلحة على حساب الجِد و المثابرة .. توارث المصريون الخطأين يوما بعد يوم .. لم يعالج الخلل بجدية .. طفت ظواهره على السطح فى عصر الثورة .. نخبة ثورية تحن إلى رعاية الدولة (ناتج عن الخطأ الأول) .. و صراع ما بين حركة دينية نفذت إلى المجتمع من ثغرة الإنفتاح و بين إنتهازية سياسية إرتبطت بتسفيه الأيديولوجيا (ناتج عن الخطأ الثانى) ..
أبرز تجليات هذا الصراع هو الإنقسام فى نتائج المرحلة النهائية لإنتخابات الرئاسة بين مرسى و شفيق .. الأول يمثل تيارا يحتكر الإطار الأخلاقى و يختزله فى مرجعيات لم يطلها التطور لمجابهة ما يرى أنه تدهور لقيم المجتمع و أصوله .. شعاره هو : ما نحتاجه لكى تنصلح أحوالنا هو العودة إلى الدين و أخلاقه .. و الثانى حصد أصوات تيار مذهب المنفعة utilitarianism الذى ينظر إلى الإعتبارات البراجماتية pragmatism على أرض الواقع و ينطلق منها لتحقيق أقصى منفعة .. لسان حاله هو : السياسة مافيهاش أخلاق .. اللى تغلب به إلعب به .. شوف مصلحتك فين*. ليست السياسة بالنسبة لهذا التيار مسألة مبدأ و رؤية و إنما وسيلة و أداة فى يد محترفى الفهلوة.
ها هى الفهلوة مرة بعد مرة تطل علينا، إذن، من تلك الدهاليز الواصلة بين شئون السياسة و حركة المجتمع.
كانت تلك محاولة لتتبع موطن الداء لإجتثاثه من جذوره .. ففى الأخير، لا يستخرج اللؤلؤ الدر دون الغوص فى العمق ..