البلاش كتَّر منه
بقلم: أمين رشدي
في عشريناتي كنت اميل الي الفكر اليساري (حتي بدون ان اعرف)، هذا عادة ما تفعله العشرينات في الانسان ..
لكي يفعل الانسان ما يريد بحرية، عليه ان يدفع فواتيره اولا .. وإلا فليقبل أن ينفذ ما يمليه من دفع فواتيره بدلا منه
كنت اجلس مع مجموعه من دارسي الطب في امريكا من مختلف الجنسيات، وعندما يجلس مجموعه من دارسي الطب او حديثي التخرج في الولايات المتحدة فان الحديث يجب ان يمر بديون دراستهم المتراكمة (متوسط تكلفة دراسة الطب في امريكا 207 الف دولار في الجامعات الحكومية 278 الف دولار في الجامعات الخاصة دون حساب تكلفة المعيشة). وبعد ان شارك كل واحد منهم حجم ديونه جاء الدور علي طبيب تخرج حديثا من القصر العيني في مصر وجاء الي امريكا ونجح في اجتياز الجزء الاول من امتحان أجازة ممارسة الطب وبقي له الجزء الثاني (الذي وفق فيه فيما بعد بجدارة)، قال الدكتور المصري النابه بفخر ان ديونه صفر وتكلفة تعليمه صفر (نأتي لهذه النقطة لاحقا)
غني عن القول ما لاحقته من نظرات الحسد الممزوجة بالحقد .. فها هو علي وشك بداية حياته العملية مثلهم تماما .. بدون اي التزامات مادية، في حين انهم سيضطرون لدفع ديونهم لسنوات طويلة في المستقبل قد تمتد لأكثر من عشر سنوات. وهؤلاء ليسوا من ابناء الطبقة العليا الذين دفع اباؤهم تكاليف دراستهم، بل معظمهم من ابناء الطبقة الوسطي في امريكا والذين وإن حاولت اسرتهم ان تساعدم بما تستطيع فانهم يعرفون جيدا ان عبء دراستهم الجامعية يقع علي كاهلهم. خاصة اذا ارادوا دراسة مكلفة كالطب، فكلهم عليهم ان يستدينوا ليغطوا تكاليف دراستهم و معيشتهم، ولأنهم جميعا شبابا نابهين فان المجتمع يقدم لهم يد العون قدر استطاعته، لا أن يغطي تكاليف الدراسة ولكن بأن تضمن الحكومة لهم قرضا بدون فوائد طوال مدة الدراسة، وبعد ذلك يكون عليهم ان يردوا كل الاموال التي اقترضوها الي البنوك بالفوائد المتراكمة بعد تخرجهم من الجامعة ..
حياتهم ليست سهلة كما تري ..
اما طبيبنا النابه فهو ليس اذكي او اقل ذكاءا من اقرانه الامريكين .. وليس اقل او اكثر منهم قدرة علي العمل وتحمل المشاق ايضا .. عندما بدأوا في مقارنه المواد والدراسة، كان واضحا ان دراسته اقل جودة واقل متعة كذلك، ولكنها كانت مقبولة .. فقد قام مثلهم بعمليات تشريح وخلافه بل انه ربما تفوق عليهم بأن كانت له خبره عملية اكثر في سنة الامتياز، وعلي كل الاحوال فهو لم يكن من الطلبة المتميزين في القصر العيني .. كان متوسطا او فوق المتوسط بقليل .. وكونه استطاع ان يجتاز الامتحان يدل علي انه في النهاية تلقي تعليما مقبولا مكنه ببعض المجهود الشخصي ان يتساوي مع طلاب امريكان دون ان يضطر ان يدفع مليونا من الجنيهات مثلهم ..
شئ ما خطأ ..
لنحلل هذا سويا بهدوء ..
هناك الكثير من المغالطات وسوء الفهم في هذه القصة ..
بداية، فان تكلفة تعليم الطبيب المصري ليست صفراً، فإلي ان يرثُ الله الارضَ وما عليها وننتقل الي العيشٍ بجواره في الجنه (ربنا يكتبها لنا كلنا) .. لا يوجد نشاط اقتصادي في الحياه تكلفته صفرا، الطبيب المصري النابه لم يكذب فالتكلفة التي تحملها هو كانت تقترب من الصفر (خاصة اذا ما قورنت بما يدفعه دارس الطب في امريكا)، ولكنه لم يحسب التكلفة التي اضطرت الدولة ان تدفعها.
ولكننا دولة محدودة الموارد، فمن اين لها ان تأتي بتغطية تكلفة تعليم باهظة كدراسة الطب؟
اضطرت الدولة ان تقتطع من مواردها المحدودة جزءا لكي تغطي تكلفة تعليم هذا الشاب. هذه الجملة قد تبدو عادية بالنسبة لك، ولكنها تعني اموالا .. انها تعني ان الموظف الغلبان الذي يتقاضي ملاليم بالكاد تغطي تكاليف اسرته اما تكاليفه هو فعلي ما تفرج، هذا الموظف اضطر (دون ان يعلم او يملك اختيارا) ان يقتطع من قوت يومه ويأخذ من اكل اولاده (نعم ارجوك تخيل هذه الصورة فهي بالظبط كما ارسمها لك) ليعطي اموالا لهذا الشاب في صورة دعم تعليمه حتي يتمكن من ان يدرس الطب “ببلاش” من وجهة نظره .. انها تعني ان قرية الحراجية في قنا اضطرت ان تستغني عن عملية اعادة رصف للطريق الذي يربطها باقرب مركز في قوص و الذي ادي تدهور حاله الي الكثير من حوادث الطرق، هذه القريه الصغيرة تنازلت عن هذا الحق من اجل ان يكمل الشاب تعليمه ويتخرج بصفر من الديون ..
عزيزي ليست هذه مبالغات بل هي حقيقة حسابية بسيطة ..
ولكن هذا الشاب ما ان تخرج حتي سافر وهاجر الي امريكا الي غير رجعة، فما الفائدة التي عادت علي البلد بعد كل هذه التضحيات الغالية
مرة اخري شئ ما خطأ ..
هناك حلين لا ثالث لهما
- ان تترك البلد هذا الشخص يهاجر وتستعوض ربنا في الفلوس
- ان تجبر البلد هذا الشخص ان يعمل في مصر ولا تتركه يذهب بدون ان يدفع ما عليه في صورة عمل يقوم به ليرد “جميل” هذه البلد عليه
الحل الاول يفسر لماذا دائما ما تكون الدول الاشتراكية اقل كفاءة في استخدام مواردها من الدول التي تدار عن طريق رأس المال الحر. ففي حالة طبيبنا النابه يكون هذا الفعل هو في واقع الأمر هبة لا ترد من الحكومة المصرية لدعم نظام الصحة الامريكي ..
اما الحل الثاني فانا لن اناقشك فيه .. فانا متأكد انك تستطيع ان تقترح الكثير والكثير من الانظمة التي “تجبر” الشخص الذي يستفيد من دعم الحكومة ان يستخدمه فيما تري الحكومة انه الفائدة المرجوه من استثمارها التي اضطرت ان تدفعه في دعمه .. تستطيع ان تقترح ترسانة من القوانين (والتعقيدات القانونية من هذا النوع هي السمة الرئيسية للدول الاشتراكية) .. هذه القوانين ممكن ان تجرم فعلا كهذا الذي فعله طبيبنا النابه .. كما تستطيع في نفس الوقت ان تترك مجالا له كي يتخلص من هذا القيد بأن يدفع ما عليه من اموال …
لن اناقشك في امكانية تطبيق هذه القوانين وفاعليتها والرقابه عليها والتضخم في حجم الجهاز الحكومي المصاحب لها .. كل هذا نستطيع ان نتجادل فيه حتي الصباح الباكر ولن يقتنع ايا منا
ما احاول الوصول له هي فكرة بسيطة جدا .. واظن اننا سنتفق عليها ..
لا يمكن ان تحصل علي حريتك الشخصية (السفر الي امريكا في حالة طبيبنا النابه) الا من خلال حريتك الاقتصادية ..
بدون ان تدفع تكلفة افعالك .. لن تكون حرا …
الحل الاخر لهذه المعضلة هو حكومة ظالمة تأخذ اموالا من الشعب لاعطائها لمن لا يستحق ..
أي حل ستقترحه (بغض النظر) سيكون جوهره انه لكي يفعل الانسان ما يريد بحرية، عليه ان يدفع فواتيره اولا .. وإلا فليقبل أن ينفذ ما يمليه من دفع فواتيره بدلا منه ..
فكر في الأمر قليلا دون محاولة بناء نظام كامل، ركز علي الفكرة المجردة دون تشويش ..
الحرية الشخصية لا تنفصل عن الحرية ا لاقتصادية
One Response to “البلاش كتَّر منه”
[…] مقال سابق في عين العقل بعنوان “البلاش كتر منه” فكرة مجانية التعليم من منظور اخر، فبينما احاول في هذا […]
Comments are closed.