عن الإخوان و الليبرالية الاقتصادية
بقلم: أحمد فهمي
أعلم أن هناك شبه إجماع على أن الإخوان، والإسلام السياسي عموماً، رأسماليين ونيوليبراليين (حتي وإن نفي الإخوان ذلك رسميا). وفي الحقيقة أنا أختلف مع هذا الاجماع النخبوي وأرى عكسه.
رغم احترام فكر الإسلام السياسي للملكية الخاصة وتشجيعه للتجارة والربح فأنه لا يقدم نظاما اقتصاديا متكاملا. ويفتح الباب لكي يميل الاسلاميون يمينا او يسارا بما يحقق مصلحتهم السياسية. و عموما فعندما يأتي الأمر للسياسات العامة فالأيديولوجيا وحدها لا تحدد إذا كانت السياسات ستتجه يميناً ام يساراً.
العامل الحاسم هو طبيعة المصالح التي يعبر عنها التنظيم أو النظام. بمعنى: ما من شأنه أن يزيد تماسك وتأييد قاعدته الشعبية ولا يضعفها، ويؤمن له حكماً أكثر استقراراً له قاعدة شعبية واسعة تعتمد على المصالح المادية والأيديولوجيا معاً وليس أحدهما فقط.
ما يجعل الإخوان حالياً يبدو وكأنهم رأسماليين هى طبيعة البيئة الدولية بعد انهيار البديل السوفيتي الاشتراكي وتبلور نظام عالمي رأسمالي…لا توجد بدائل عملية أمام الدول النامية غير الاستمرار في طريق تحرير الاقتصاد
فكر في المثال التالي:
تخيل لو أن الإخوان انتصروا على عبد الناصر في 1954 ووصلوا للحكم. ماذا كانت ستكون طبيعة الإجراءات الاقتصادية التي سيتبعونها؟ لديهم اقتصاد كان يمر بمرحلة من النمو الاقتصادي ،الصناعي تحديداً، بسبب سياسة استبدال التصنيع محل الواردات وبه رؤوس أموال خاصة كبيرة تكفي لإحداث نقلة في مستوى معيشة الطبقات الأقل. ولديهم نظام دولي ثنائي القطبية يستطيعوا من خلاله اللعب على تناقضاته للحصول على مساعدات دولية كبيرة، وأن يتبعوا سياسات اشتراكية تعيد توزيع الثروة لصالح قاعدتهم الاجتماعية مع إضعاف التشكيلات الاجتماعية العليا المناوئة لهم. و كذلك لديهم قاعدة اجتماعية أغلبها من مهمشي المدن والمهاجرين من الأرياف ومن الريف نفسه. هل كانوا سيستمرون في طريق الليبرالية الاقتصادية مثلاً ويخسرون قواعدهم ويفتتوها ويضعفوها لمجرد إنهم مؤمنين بالرأسمالية كما تفترض التحليلات اليسارية؟ أم كان الأقرب للمنطق أنهم سيفعلون تقريباً ما فعله عبد الناصر ولكن باسم الإسلام بدلاً من اسامي القومية العربية وبستان الاشتراكية؟
الحقيقة إن ما يجعل الإخوان حالياً يبدو وكأنهم رأسماليين هى طبيعة البيئة الدولية المعاصرة بعد انهيار البديل السوفيتي الاشتراكي وتبلور نظام عالمي رأسمالي انضمت إليه كل الاقتصادات المهمة والكبيرة بما فيها الصيني والروسي، وبالتالي عدم وجود بدائل عملية أمام الدول النامية غير الاستمرار في طريق تحرير الاقتصاد (إلا من امتلك منهم بترولا أو ما شابه)، وذلك على الرغم من معاداة هذا الاختيار لمصلحتهم كتنظيم وتهديده بالفعل لاحتمالات حفاظهم على كتلهم المؤيدة. وأعتقد أيضاً أن هذا هو السبب في أن بعض اليساريين – الكلاسيكيين بمعنى من يعطون الأولوية للاقتصاد على السياسة والحريات العامة والشخصية – أيدوا الإسلاميين في بعض المراحل بعد ثورة يناير، وهذا هو أيضاً الفرق بين اليسار الكلاسيكي (على الطريقة اللينينية) وبين اليسار الديمقراطي أو التحرري الذي اصطف في المعسكر المعادي للإخوان باعتبارهم أساساً قوة معادية للتقدم والحرية والديمقراطية.
تخيل ثانية أن زعيماً يسارياً وصل للحكم الآن في مصر. صباحي أو خالد علي، مثلاً. كيف تتصور أنه سيغير بنية الاقتصاد المصري الحالية؟ هل سيؤمم الثروات ويفرض ضرائب تصاعدية مرتفعة ويوجه الانتاج لسد احتياجات السوق المحلي بدلا من الاستيراد؟ فلنفترض أنه فعل ذلك، ونال شعبية كاسحة في الشارع، ماذا ستكون نتيجة تلك السياسة بعد سنوات قليلة؟ الاقتصاد المصري يعتمد على موارد يأتي معظمها من الخارج سواء من المساعدات الدولية أو السياحة أو قناة السويس، فضلاً عن الاستثمارات الأجنبية والتصدير. هل تتخيل حجم العجز في الميزان التجاري خلال سنوات قليلة؟ هل ترى الاحتياطي الأجنبي وهو يتهاوى – أكثر مما تهاوى – بفعل دعم العملة التي ستنخفض قيمتها لحدود غير مسبوقة و الحاجة لاستيراد المواد الأساسية من عالم سيعتبر مصر خارج منظومته المعولمة؟ هل تتصور أثر هروب الاستثمارات الأجنبية وعدم ورود الجديد منها على حالة التشغيل؟ هل تتخيل عجز الموازنة الذي سيتصاعد سريعاً كنتيجة للخدمات الاجتماعية التي ستقدمها الدولة بتوسع مع الاستمرار في تشغيل الخريجين في القطاع العام والحكومة ودفع مرتباتهم؟ هل تتصور الضغط الهائل الذي سيقع على الجهاز الإداري للدولة، وهو الذي أصبح بالفعل متهالكاً ويسير بالقصور الذاتي؟
أعلب الظن أن أي من خالد علي أو صباحي – وإن افترضنا قدرته على تجاوز ايدولوجية لم يؤمن بغيرها في حياته- لن يقدم على سياسات من هذا النوع. وأنه سيجد بمجرد اطلاعه على ملفات الحكم الحقيقية أن أقصى ما يستطيع فعله هو إعادة صياغة دور الدولة في الاقتصاد لتصبح بقدر ما نموذجاً للدولة التنموية التي تتدخل بقدر وحساب في الاقتصاد لصالح تنمية قطاعات بعينها دون الإخلال ببنية الاقتصاد ومنظومة علاقاته بالاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي لن يحقق له م
ا حققته سياسات عبد الناصر الشعبوية من شعبية وشرعية، وسيجعله أيضاً مستمراً في إطار اقتصاد السوق الرأسمالي.
الحقيقة هي أنه هناك فرقاً جوهرياً بين السير على طريق الليبرالية الاقتصادية اقتناعاً بأنه يحقق مصالح عموم المواطنين على المديين المتوسط والبعيد، وأنه الطريق الأفضل لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة التي لا تتعرض لانتكاسات متكررة بمجرد نفاذ الموارد الريعية التي تنفق منها الدولة على الخدمات العامة دون وجود موارد إنتاجية حقيقية لذلك، وبين الاضطرار لفعل ذلك لعدم وجود بديل عملي. في الحالة الأولى يمكن تأسيس نموذج راسخ للتنمية ينعكس على المجال العام في نواحيه السياسية والثقافية والحرياتية عموماً، وفي الحالة الثانية يكون الأمر مقتصراً على شكليات إجرائية لا تتعدى نطاق الاقتصاد لغيره ويتم النكوص عنها بمجرد تغير الظرف الدولي الذي حتمها بكل ما يعنيه ذلك من انتكاس جديد للاقتصاد وتبديد موارده، وهي الحالة التي يقع الإخوان في تقديري في إطارها.