عن مؤامرة الكفار والخونة
“مؤامرة دبرها الأعداء من الكفار الذين يحيطون بنا وينتظرون أي فرصة للانقضاض على الوطن مع كفار الداخل الذين يعيشون بيننا ويظهرون الولاء وهم يبطنون الكراهية والحقد يساعدهم الخونة ممن باعوا أرواحهم للشيطان.”
عبارة قد تبدو مألوفة لمن يتابع وسائل الإعلام في شرقنا السعيد أو مواقع التواصل الاجتماعي. لكن تلك العبارة وردت أيضا على لسان الكثير من الفرنسيين في القرن الرابع عشر بعد أن أعلنت السلطات الحكومية عن اكتشافها لـ”مؤامرة” قالت إنها تحاك من جانب ” المصابين بالجذام بمساعدة من يهود فرنسا وسلطان القاهرة وملك غرناطة المسلم بهدف تحويل سكان فرنسا إلى مرضى يستحيل شفاؤهم”. نظريات المؤامرة تلك هيمنت على عقول الكثير من الفرنسيين وقتها مثلما لا تزال تسيطر على تفكير العديد منّا. لكن إلى أي حد كان التشابه بين العالمين
في القرن الرابع عشر كانت العديد من دول القارة الأوربية لا تزال تعيش في فترة زمنية اتسمت بانحسار العقل مقابل تزايد التعصب الديني. غياب العقل عن أوروبا كان وراء وصف البعض من المؤرخين لتلك الحقبة الزمنية بالعصور المظلمة. وتسبب ذلك الظلام العقلي في تخلف الغرب عن ركب الحضارة. كما أن الطبقة الحاكمة في العالم الغربي في ذلك الزمن كانت قد تيقَّنَت من عدم قدرتها على حسم الصراع العسكري مع الشرق الإسلامي بعد قرون من الحروب الصليبية مما قوَّض من سلطتها وهي التي كانت تروج لنفسها بوصفها حاملة لواء الدفاع عن العقيدة المسيحية.
أكثر من ذلك شهد القرن الرابع عشر بداية انتشار أمراض الطاعون والجذام وهو ما مثَّل تحديا كبيرا للمعارف العلمية للطبقة المثقفة التي كانت تحتكر العلم والثقافة. وعادت الطبقة المثقفة ووقفت حائرة مرة أخرى أمام ظاهرة انخفاض درجات الحرارة في العالم بشكل كبير. قائمة الكوارث شملت أيضا حروبا دموية ومجاعات وثورات عنيفة من قِبَل الفلاحين الفقراء
فرنسا في عام 1321 لم تكن استثناءً. فالملك فيليب يعاني من عدم قدرته على تنفيذ تعهداته بإرسال حملة صليبية جديدة لمحاربة المسلمين، كما أن الجماهير في البلاد تعاني كثيرا من المجاعات والفقر وانتشار الأوبئة والتي كان أبرزها مرض الجذام الذي يتسبب في تآكل جلد المصاب به . حالة التوتر الاجتماعي هذه تسببت في انتشار الفوضى والعنف بين سكان البلاد. وفجأة اكتشفت السلطات “المؤامرة” بعد عثورها على خطابات باللغة العربية تفيد بأن “سلطان غرناطة وملك تونس وسلطان القاهرة أعلنوا عن استعدادهم لحمل المسلمين على اعتناق اليهودية وإجراء عملية الختان وتسليم القدس إلى اليهود مقابل أن يساعد يهود فرنسا المسلمين على الاستيلاء على فرنسا وهو ما سيتم عبر التعاون مع المصابين بمرض الجذام الذين سيلوثون آبار فرنسا بدماء ومخلفات السحالي بحيث يصاب جميع سكان فرنسا بالمرض”.
هل يبدو هذا معقولا؟ المسلمون مستعدون لاعتناق اليهودية وتسليم القدس لليهود مقابل السيطرة على فرنسا؟ بالطبع هذا لا يمكن تصنيفه إلا تحت باب الخيال العلمي، لكن عددا ليس بالقليل من سكان فرنسا ومثقفيها آمنوا به؛ لماذا؟ لأن العقل في فرنسا كان غائبا، لأن فرنسا القرن الرابع عشر كانت تعاني من مشاكل ضخمة غير قادرة على مواجهتها فلجأت إلى الخرافات. ولأن الكثير من أعضاء النخبة المتعلمة في فرنسا لم يكن لهم أي علاقة بالثقافة بمعني الانفتاح على الحضارات الأخرى التي تحولت عندهم إلى شيطان كبير
كذلك كان الجهل هو السلطان على كلٍ من مثقفي فرنسا وعوامِّها، وهو ما جعلهم يقفون عاجزين أمام التحديات الداخلية مثل الجذام، الذي ليس للإصابة به علاقة بغضب الله أو دماء السحالي
الحال مع العالم الخارجي لم يكن مختلفا، فالدارس للإسلام والمسلمين يدرك استحالة ما ورد في تلك “الوثائق” التي ليس لها وجود إلا في الخيال المريض لمن أرادوا الإيمان بها.
فرنسا والغرب ظلوا لفترة يتحدثون عن مؤامرات مزعومة نتيجة للتخلف الثقافي والعلمي. فالايمان بنظرية المؤامرة غالبا ما يأتي لتعويض الفشل وعدم القدرة على مواجهة التحديات.
يحيى رؤوف