جمال عبد الناصر: على طريقة الممثل
بقلم: ماجد عطية
وصف مارلون برندو، وهو الممثل الذي رأي موهبته كنقمة، طريقته في التمثيل بانها تعتمد على العيش داخل الشخصية بطريقة تامة حتي تصبح أفعاله ناتجة عن منطق الشخصية ذاتها، وليس تفكيره هو. العلاقة بين السياسة والتمثيل كانت دائما موجوده: كتب عنها شكسبير ولم ينساها مؤلفو الدرامات الأغريقية. حتي الحكام في القدم اختاروا أزيائهم بناء على وقعها على المشاهدين كعادة الممثلون. وحتي اليوم نستخدم مصطلحات ك”المسرح السياسي”. جسد القليلون في تاريخ مصر المعاصر تلك العلاقة أفضل من الرئيس عبد الناصر. ترك ذلك الرجل المرن، الذي نشأ يتيم الأم، بصمة عملاقة على أمته وأبعد، لا لإيمانه بفلسفة أو ايدولوجية معينة، ولكن على العكس لانه لم يكن يؤمن باي منها مما جعله قادرا على العيش داخل شخصية البطل بطريقة كاملة سيطرت على حكمه وسياساته وقادته في صعوده وهبوطه، متخذة منحي درامي مألوف لأي كاتب. المصريون، وآخرون أبعد من وادي النيل، كانوا مشاهدينهُ وجمهوره اللذين أحبوه لا لسيرته السياسية (والتي كانت نتائجها كارثية في معظم الأحوال)، ولكن لما تمكنوا من اسقاطه على شخصيته. ليس من الصعب تخيل أن في ظروف أخري كان من الممكن أن يكون عبد الناصر أحد نجوم السينما المصرية: الرجل الأنيق الذي يتمكن من حل جميع المشاكل بينما يشع حنان ذكوري تاركا كل الفتيات في حالة هيام بينما تنظر أمهاتهم في رضا. وبالطبع يحاول الرجال أخفاء غيرتهم وتقليد كل حركاته.
يقولون ان الكاميرا تميز الممثلين العظام. بعد انقلاب ١٩٥٢ بيوم واحد جلس الضباط الاحرار لتؤخذ صورتهم. كانت صورة رسمية صارمة جلس فيها الضابط الأعلى مرتبة – محمد نجيب – خلف المكتب ومن حوله رجاله. كان من المفترض أن يكون هو محور ومركز الصورة، ولكن لسبب غير مفهوم ركزت الكاميرا على عبد الناصر جاعلة أياه في منتصف الكادر. في تلك اللحظة لم يدرك احد دوره المستقبلي إلا تلك الكاميرا ذات البصيرة. أصبح مصيره محتوم. منذ تلك اللحظة مثل كل تفاصيل الشخصية حتي عندما تعارض ذلك مع حسه السليم وحتي عندما تعارض ذلك مع غريزة البقاء. في ليلة صافية في ٢٤ أكتوبر ١٩٥٤ في ميدان المنشية دوي صوت الرصاصات المصوبة في اتجاهه. لم يحاول أن يتفادها ولكنه وقف صامدا معلنا ” حياتي فداء لمصر، دمي فداء لمصر […] إن حياة جمال عبدالناصر ملك لكم، عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملا من أجلكم […] إذا مات جمال عبد الناصر فأنا الآن أموت وأنا مطمئن؛ فكلكم جمال عبد الناصر”. في هذه اللحظة بدا وكان التاريخ هو الذي يحاول أن يقلد الدراما. بعدها بسنتين وفي ليلة قاهرية عاتمة، حاول أقرب رفاقه اقناعه بالاستسلام للقوات البريطانية الغازية وان يكتفي بأن يكون ضمير للأمة من وراء القضبان كالكثير من زعماء الحركات التحررية في هذا العصر. ولكن لم يكن هذا ليتفق مع أي سيناريو مقنع لشخصيته. وقف صامدا وحدث المستحيل – كما هو الحال في الدراما – وتخلي أيزنهاور عن حلفائه وأصدقائه ليقف في صف عبد الناصر. ولد البطل من جديد.
لكن كانت هناك جوانب مظلمة أيضا. فعندما عرض عليه دهاة سوريا الوحدة مع مصر في ١٩٥٨ كان حسه السليم يدفعه للرفض. ولكن لم يكن ذلك منطق شخصية الزعيم العربي العظيم. وبالفعل لم يستمع لصوت عقله واندفع في ذلك الاتحاد لدرجة محو أسم “مصر” الأبدي، وهو القرار الذي حسم موقف الكثيرين منه. الأسوء هو أنه سمح بتدخلات “محدودة” في أمور الدول العربية الأخري كجزء من دوره. ارتدت كل تلك التدخلات عليه حيث كانت أجهزة المخابرات المصرية في هذا الوقت أقل كفاءة من أي وقت أخر. بعد فشل الاتحاد مع سوريا في ١٩٦١ حاول عبد الناصر أثبات عظمته في داخل مصر. أطلق العديد من المشروعات كلها على النموذج الاشتراكي. ورغم أنها شكلت بانورامات عظيمة كتلك التي كان يرسمها دييجو ريفيرا، فانها كبلت نمو الاقتصاد المصري ليومنا هذا. كان على الزعيم العربي العظيم أيضاً أن يساند جنرال يمني فاشل على حساب ٢٠ ألف من أرواح المصريين. كانت تلك حدود الشخصية المكتوبة له. حتي في ١٩٦٧ لم يستطع عبد الناصر أن يقاوم الميل البطولي للمغامرة مكلفا البلاد نكسة عسكرية فادحة. أقوي تفسير أعطاه لأفعاله في مايو ١٩٦٧ كان “انا مش خرع زي المستر ايدن”. يستمر البطل في دوره. وحده الحب يجلب الخلاص في أحلك اللحظات. كان حب الناس الحقيقي له ،و حيرتهم في نفس الوقت، هو ما أنقذه في ٩ يونيو ١٩٦٧.
ياتي الموت مره واحده للإنسان، ولكن الممثلون العظام يعيشونه عشرات المرات. الأزمة القلبية التي أوشكت على القضاء على حياته في ١٩٦٨ لم تبطئه بل دفعته للفعل. أعقبتها اعظم سنتين في حياته، وأكثرهم ترحالا. لم يمت البطل العربي العظيم حتي اقتضى دوره ذلك. مات عبد الناصر فقط عندما أنفجر العالم العربي في احداث عنف أيلول الأسود. تقاتل “الإخوة” العرب في الأردن على مقربة من الحدود مع عدوهم المشترك. بعدها بساعات أسدل الستار على عبد الناصر – الرجل. ولكن دوره مازال باقياً منتظراً ممثلا أخر ليحمل المشعل.