شعبوية تبحث عن زعيم
بقلم: أحمد فهمي
الشعبوية هي تأليب الجماهير “البريئة الصابرة الصامدة المستغَلّة” ضد النخب “الفاسدة الشريرة المدعومة من الخارج”. لا يهم هنا أن من يوجه هذا الخطاب هو بذاته عضو في النخبة. لا يهم أنه في واقع الأمر يستخدم “الجماهير” لضرب معارضيه النخبويين وتحييدهم وإسكات صوتهم وقدرتهم على معارضته. المهم هو الخطاب التبسيطي الواضح: “هناك أشرار أغنياء عملاء لا يشعرون بمعاناتكم ويقومون باستغلالكم، وأنا سأقف لهم بالمرصاد. ادعموني بلا تحفظ وبلا مراجعة وسأدهس هؤلاء الأشرار جميعاً ليحيا “الشعب” حياة العزة والكرامة”.
الشعبوية هي تقديم صورة متخيلة عن الواقع تخاطب عاطفة المستمع وغرائزه وليس عقله وإدراكه الواعي. الواقع ليس نسبياً عند مؤسس الحكم الشعبوي. هو حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش. ولكنه ليس الحقيقة التي يقدمها المعارضون. هي الحقيقة التي أقدمها أنا: الحاكم الآتي من الشارع والشاعر بهمومه ومعاناته. “نحن في حالة حرب: ضد النخبة، والفساد، والغرب الاستعماري، والرأسمال المستغل، والعلمانية الغازية والنساء العاريات الكاسيات. نحن الأفضل لولا التعطيل المتعمد الذي نواجهه. نحن ناجحون، أقوياء، متسامون. هل تشعر معي بعظمتنا؟ أنت يا من كنت تعتقد أنك لا شئ على هامش العالم تشعر معي الآن أنك كل شئ وسواك المسوخ. امتلئ معي بهذا الشعور. معاً سنحلق فوق السحاب. سنصنع السيارات والطائرات والصواريخ. الأمر لا يحتاج سوى للتكاتف والقضاء على الفساد. سنثبت خطأ نظريات هذا النيوتن وذلك الأينشتاين. سنقضي على عقدة الخواجة المتوهمة التي صنعتها النخب العلمانية المهووسة بالغرب. سنصير سادة العالم وستصير أنت السيد وسواك العبيد”.
“أنت يا من كنت تعتقد أنك لا شئ..تشعر معي الآن أنك كل شئ وسواك المسوخ. امتلئ معي بهذا الشعور. معاً سنحلق فوق السحاب. سنصنع السيارات والطائرات والصواريخ. الأمر لا يحتاج سوى القضاء على الفساد. سنثبت خطأ نظريات هذا النيوتن وذلك الأينشتاين”
الشعبوية هي استثمار لواقع فوضوي ولفشل مؤسسات الدولة الرسمية في حل مشكلات الناس. تتغذى على أسوأ عاطفتين عرفهما الإنسان: الغضب والخوف. “هل تشعر بالخوف؟ هل سئمت من كل هذا الكلام؟ هل تشعر أنك لا تفهم؟ هل أصبحت لا تأمن على حياتك وحياة من تحب؟ هل تحلم بأن يختفي من حولك تعقيد الواقع وتخرس هذه الأصوات المتناقضة التي تسمعها كل يوم؟ هل تشعر بكل هذا الغضب تجاه عجزك ويأسك وقلة حيلتك وهوانك على الناس؟ أنا الحل. بمجرد تسليمك لإرادتي، سترى الكون مختلفاً. ستصير عضواً معي في تنظيم كبير بحجم الوطن. نحارب كلنا الشر ممثلاً في الآخر العلماني، أو الليبرالي، أو الغربي، أو المتخفي في جسد إمرأة أو مسيحي أو – أعوذ بالله – بهائي أو كافر أو شيعي. ستختفي جميع المشكلات وتصير الحياة واضحة. سيختفي الخوف وتشعر بالأمان. أمان الخلاص والحقيقة. فالحق أبلج والباطل لجلج”.
الشعبوية يحتاج تأسيسها لعلاقة خاصة بين زعيم ملهم وجماهير تابعة طائعة. يتمثلون فيه عزهم الضائع. يتغذون من بريق عينيه المشع كرامة. ينتشون بشتائمه وسخريته من الأعداء. يخضعون لإرادته الكلية القاهرة فوق عباده. يحلمون ليلاً به يمنحهم القوة والفحولة. يعوضون بصوته المخترق همساتهم الخافتة لتستحيل زئيراً يرعب قلوب الأوغاد من حولهم. يرتفعون فوق قامته المديدة ليصبح العالم الحقيقي في نظرهم قزم حقير. قزم حقير يمكن سحقه بالحذاء. حذاء الزعيم الذي نرتديه جميعاً معاً. الذي نتوحد كلنا داخله.
الشعبوية لا تنتهي أبداً نهاية سعيدة. الكثير من الألم والدموع والندم ينتظر في نهاية هذا الطريق. النظم الشعبوية لا تتسم بالكفاءة. تهتم بالسلطة وتكريسها قبل أي شئ. تهدر موارد مجتمعها. تسمم عقول ووجدان أجيال متتالية من شعبها. تعطي الشعب في البداية القليل من الفرح والبهجة التي تشبه بهجة الإكستاسي. بعد ذلك يأتي وقت الحساب، وهو عسير. اقتصاد يدمره سوء التخصيص. سياسة خارجية تتجه مع الوقت لتكون عدوانية معزولة. مجتمع ممزق يسري الشك والتخوين والارتياب والكراهية في شرايينه محل الدم. تحتاج الشعوب لعقود بعد ذلك لإصلاح ما فسد.
الشعبوية في مصر لا ينقصها إلا الزعيم. رصيدها الشعبي حاضر. ورصيدها النخبوي يحكم بالفعل وتعج به المعارضة كذلك. ولكن حسن الحظ، لا يوجد حتى الآن زعيم ملهم ذي قامة مديدة ونظرات حادة وصوت مخترق.