أراء: الحرام السياسي
بقلم: كريم عماد
من نحن؟ كان هذا هو سؤال الهوية المصرية المعقد الذى إنطلق منه الشيخ رفاعة الطهطاوى فى أوائل القرن التاسع العشر رافعاً لواء التنوير فى مواجهة ظلام عصور الخلافة العثمانية التى يشير الجبرتي إلى أن الخراب عم فيها إقليم مصر. عمل الشيخ الجليل على تأصيل أركان الهوية المصرية المستقلة ببعث مفهومى “الوطن” و “المواطنة” فى مواجهة مفهومى “الأمة” و “الرعية أو السوقة”. بدت تلك المفاهيم غريبة على أسماع وآذان المصريين فراح الشيخ الطهطاوى يحدث أبناء وطنه عن أن “حب الأوطان فضيلة جليلة ، لاسيما إذا كان الموطن منبت العز والسعادة والفخر كديار مصر ، فهى أعز الأوطان لبينها” وأنها (أى مصر الوطن) “أم لساكنيها ودودة بارة بهم”. عمل كذلك على ترسيخ مفاهيم الحرية والمساواة والأخوة الوطنية من منطلق دينى حيث إن “جميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن فى حقوق بعضهم على بعض”.
لم يذهب جهد الشيخ الجليل هباءًا، إذ تسلم مشعل التنوير من بعده جيل كامل من الرواد بزغ نجمهم أواخر القرن التاسع عشر، وشمل ذلك قامات مصرية شامخة مثل عبد الله النديم ومن بعده الإمام محمد عبده وطه حسين وقاسم أمين في الفكر والثقافة، وسعد زغلول ومصطفى النحاس في السياسة. عمل هؤلاء جميعاً على إستكمال رحلة التنوير بلا كلل وفى جهد متصل على مدار ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن هى عمر الإحتلال البريطانى لمصر. كان لنضال هؤلاء وجهان متكاملان: الخلاص من الاستعمار، وإقامة حياة ديمقراطية ودستورية حديثة. وتحت هذين العنوانين العريضين صاغ محمد عبده مشروعه للإصلاح الديني، وأنتج قاسم أمين فكره حول تحرير المرأة، وعرض طه حسين أفكاره حول إصلاح التعليم. وفي الإجمال سعى هؤلاء جميعاً – كل بطريقته وفي مجاله – إلى صياغة مشروع لنهضة مصر، يقوم على مفهوم المواطنة ويرتكز على أن “الدين لله والوطن للجميع”.
هذه الهوية المصرية الجامعة التي حاول رواد النهضة غرسها، وكانت على وشك أن تؤتي أكلها، تعرضت لهزة عنيفة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أفل نجم الليبرالية المصرية الوليدة، وظهر تأثير الحركات الفاشية في العالم (النازية الألمانية والفاشية الإيطالية) على المشهد السياسي المصرية ، فظهرت الحركات الدينية مثل الإخوان المسلمين، وبزغ نجم الأحزاب القومية المتطرفة (مصر الفتاة). كانت هذه هي بداية النهاية لفكرة “الهوية الوطنية الجامعة” التي جهد رواد التنوير في صياغتها وبثها في المجتمع.
لم يدرك المثقف المصرى المعاصر مدى خطورة الدور الذى لعبه. لم يدرك المثقف المصرى المعاصر ثمن الخلاف السياسى مع “الفصيل الوطنى” الذى روج له. لم يدرك أن الخيار لم يكن بين الديمقراطية والديكتاتورية أو بين الثورة والنظام السابق
مع وصول الضباط الأحرار للسلطة عام 1952 تعرضت “فكرة الهوية ” لضربة جديدة. أصبح على المصريين أن يعرفوا أنفسهم كعرب أولاً قبل أن يكونوا مصريين، تحولت مصر إلى “الإقليم الجنوبي” في زمن الوحدة مع سوريا. تراجعت جهود التنوير. زحفت التيارات الدينية على الوعي المصري، واكتملت مسيرتها في السبعينات من القرن الماضي بتأثير من أموال البترول الخليجي. لقد فتح الرئيس السادات الباب على مصراعيه أمام التيارات الدينية للعمل السياسى فى محاولة منه لضرب التيارات الناصرية والماركسية. لم يدرك ساعتها الأثر الخطير لهذه التيارات على مجتمع يعيش أزمة هوية. لا يعرف بالضبط إلام ينتمي. ليس لديه مرجعية أخلاقية وسياسية، بعد أن أخفقت التيارات العروبية واليسارية في ملء وجدانه بعد هزمية 1967 المريرة.
خاض مبارك منذ الثمانينات حرباً شرسة ضد التيار الديني. اختار أن يخوض المعركة على الجبهة الأمنية، خاصة بعد أن لجأت الجماعات الإسلامية لحمل السلاح واشتبتكت مع الدولة ومؤسساتها – بل ومع المجتمع- في عمليات إرهابية. ولكن لم يخلق نظام مبارك في أي وقت بدائل سياسية، سواء له في الحكم..أو للتيارات الدينية في المعارضة، وواصلت جماعات الإسلام السياسى سيطرتها على المجتمع. وبدا – خاصة خلال انتخابات 2005- أن هذه الجماعات قادرة على تحقيق انتصارات سياسية هائلة إذا فُتح لها المجال السياسي.
في السنوات الأخيرة من عمر حكم مبارك، وبدافع من اليأس في إمكانية اقدام النظام على خطوات جادة لانفتاح سياسي يسمح بمجال تنافسي، بدأت الكثير من التيارات اليسارية والقومية المعارضة لحكم مبارك تروج لفكرة إمكانية التحالف مع الإخوان المسلمين لمواجهة النظام. وساهم المثقف المصرى تزامناً مع نشأة الجمعية الوطنية للتغيير عام 2008 فى ترسيخ فكرة التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين على أنها فصيل وطنى، ووفر هذا للجماعة غطاء سياسياً كان ينقصها لتصبح “معارضة عادية” ومقبولة.
كان هذا هو “الحرام السياسي” بعينه. كان يعني تمييع الخطوط الفاصلة، بحيث يتم التعتيم والتشويش على سؤال مفصلي: هل نريد مصر دولة دينية؟. لم يجب أحد على هذا السؤال في معمعة الخلاف السياسي مع نظام مبارك، والتي تُوجت بانتفاضة شعبية على حكمه. وعندما سقط النظام، استمر السياسيون والمثقفون في ممارسة “الحرام السياسي”، وواصلوا التشويش على القضية الجوهرية: هل نريد دولة دينية؟ هل يقبل الإخوان بدولة علمانية؟ . ووصل عبث المثقف المصرى المعاصر إلى أقصى مدى ممكن أثناء الجولة الثانية من الإنتخابات الرئاسية في يونيو 2012. ولم يجد بعض المثقفين خجلاً في نعت كل مواطن يرى خطر وصول هذه الجماعات إلى الحكم بأنه إما قبطى مذعور أو إنتهازى يناصر النظام القديم أو عدو للثورة. وهكذا..وصلنا إلى “الليمون وعاصريه”.
لم يدرك المثقف المصرى المعاصر مدى خطورة الدور الذى لعبه إذ أن الأمم والشعوب عادة ما تتأثر بآراء ومواقف مثقفيها. لم يدرك المثقف المصرى المعاصر أن ثمن الخلاف السياسى مع “الفصيل الوطنى” الذى روج له قد يكون الإغتيال، والأمثلة كثيرة في التاريخ المصري المعاصر، بداية من النقراشي باشا، وانتهاء برفعت بالمحجوب، مروراً بالرئيس السادات. لم يدرك المثقف المصرى المعاصر أن الخيار لم يكن بين الديمقراطية والديكتاتورية أو بين الثورة والنظام السابق بل كان خيار إنقاذ ما تبقى من أشلاء الهوية المصرية. ساهم المثقف – بوعيه الزائف- في دق النعش الأخير مسمار رحلة مصر مع التحديث. وجه الضربة القاضية لفكرة “الهوية المصرية الجامعة” التي اجتهد أسلافه من الرواد العظام في بنائها، وتناوبوا على حمل رايتها جيلاً بعد جيل.
إن المطالع لتاريخ مصر الحديث لا يكاد يجد دوراً للمثقفين أسوأ من ذلك الذى لعبه المثقف المصرى المعاصر فى التمهيد لرفع راية الظلام والتكفير. لن يكون مقبولاً فى هذا الإطار التنصل من المسئولية بدعوى إنتشار الجهل وإلقاء اللوم على عصر مبارك، إذ يكفى فى ذلك تذكرة المثقف المصرى المعاصر بأن رسالة أسلافه كانت تصل إلى وعى المواطن على الرغم من أن نسبة المتعلمين فى بدايات القرن العشرين لم تكن تتجاوز 10% من إجمالى تعداد السكان.
وكما أيد المثقفون من قبل ثورة يوليو، نفاقاً أو اقتناعاً، بكل ما حملته من مفاهيم مضادة للهوية المصرية الحديثة كما تصورها آباء التنوير، فقد انطلق المثقف مرة ثانية لتأييد التيار الديني، الذي يمثل ردة فكرية وحضارية كاملة على الحداثة. وهكذا، عدنا إلى المربع رقم واحد. عادت مصر لتناقش من جديد قضايا حرية المرأة، كما تناولها قاسم أمين في أوائل القرن، وقضايا حرية الفكر والعقيدة، التي اشتبك طه حسين والشيخ علي عبد الرازق في معارك ضارية من أجل نصرتها في عشرينات القرن المنصرم.
بطبيعة الحال، فإن مأزقاً حضارياً شاملاً من هذا النوع يحتم تحميل المسئولية للجميع. ولكن يظل المثقفون مسئولين عن النصيب الأكبر في هذه الكارثة التي انتهت بوصول التيارات الظلامية لحكم مصر، لأن وعيهم هو الذي يصنع وعي الأمة ويشكل ضميرها ووجدانها العام. هناك “شيء ما” مزيف في وعي المثقفين المصريين من أبناء رفاعة. شيء مشوه وقبيح.
One Response to “أراء: الحرام السياسي”
[…] 1 […]
Comments are closed.